في زمن تمضي فيه التجارب الفنية بشكل متسارع عبر الهواتف الذكية، يظهر الحديث عن عمل مسرحي يستمر تسع ساعات وكأنه تحدٍ يتجاوز التوقعات، استطاع بيتر بروك أن يقدم نص “المهابهاراتا” – الملحمة الأهم في تاريخ الهند – في عرض يستغرق يومًا كاملًا، إضافةً إلى إنتاج فيلم مدته ثلاث ساعات، وبهذا أصبح لدينا مواجهة تستفز الأفكار حول من يحدد المعنى، هل هو المبدع أم الجمهور؟ هذه التساؤلات تبين التحدي الذي يواجهه الفن المعاصر.
هذا المقال يعكس جهدًا أكاديميًا عميقًا أجريته في مادة آليات التلقي، وقد نلت به درجة الامتياز، الفضل يعود للدكتورة رانيا عبد الرؤوف، التي ألهمتني ودعمتني، وهي التي فتحت لي الأفق لاستكشاف عمق هذا المجال النقدي، وقد تحول هذا العمل من دراسة أكاديمية إلى مقال يثير نقاشًا جديدًا حول المسرح والسينما وعلاقة الجمهور بالعمل الفني.
على خشبة المسرح، لا مجال للكسل أو الانشغال، إذ تخلق التجربة جواً يتطلب الوجود الكامل للجسد وروح الممثل، في هذا الفضاء المسرحي، لا توجد مشاهد مكتملة، بل أركان فارغة تتطلب مساهمة الجمهور لملئها، فكل تفاعل يغير مسار اللحظة ويضيف عمقًا للتجربة الشخصية، ولذا، كل عرض يصبح فريدًا، إذ يتنفّس بتفاعل الحضور، مما ينتج تجربة تتجاوز النص المكتوب.
أما في السينما، فتحدّد الكاميرا ما يجب رؤيته، وترسم مشاعر الجمهور عبر المونتاج والموسيقى، ولكن هنا يفتقد المتلقي لحظة التفاعل الحي. في نسخة المهابهاراتا السينمائية، تتواجد لوحات مرئية مدهشة تفوق قدرة المسرح، لكن السينما تحجب حرية الإختيار، مما يجعل المشاهد جزءًا من الصورة الجاهزة، وليس العنصر الفاعل في التكوين، وفي هذه الثنائية تقف نوعية التجربة حال التفريق بين الفضاء الحي والوهمي.
هذه الثنائية ليست مجرد تغيير وسيلة بحد ذاتها، بل تتطلب من الجمهور أن يختار علاقته بالعمل الفني، هل يكون شريكًا في خلق المعنى أو مجرد متلقٍ؟ فالمسرح هو تجسيد مباشر للواقع، بينما تمنح السينما تجربة مستهلكة من دون التفاعل الحيوي، ولذا يبقى السؤال حول قيمة الفن، أي وسيط يمكنه أن يُشرك المتلقي بشكل أعمق، وإجابة هذا السؤال تمثل جوهر التجربة الفنية الحقيقية.
بيتر بروك هو واحد من أبرز مخرجي المسرح في القرن العشرين، واهتم بالتركيبة بين العرض والمتلقي، بينما تعكس أعماله الفريدة بحثًا عميقًا عن الأسس الثقافية، في المسرحية والسينما، وقد استطاع أن يثير أفكارًا جديدة حول طبيعة الفعل المسرحي، وفي كتابه “الفضاء الفارغ” يوضح أن العرض لا يُبني من النص فقط، بل يتطلب أيضًا وجود المتفرج وتفاعله، مما يدل على أهمية التلقي كجزء من العمل الفني.
ومن بين الرؤى التي عبر عنها في أعماله تبرز مسرحية “المهابهاراتا” كواحدة من أبرز محطاته، حيث عمل بروك على استكشاف النصوص الملحمية بشغف عميق وبالتعاون مع كاتب فرنسي معروف، وقد عُرضت المسرحية لسنوات عديدة بكثافة، ونسختها السينمائية حققت شهرة عالمية حصلت على جوائز شرفية، مما يبرز القيمة الكبيرة لهذا العمل واستمراريته.
تمثل المهابهاراتا النص الملحمي الأبرز في التراث الهندي، حيث تعكس تاريخ الهند وثقافتها، فهي ليست مجرد قصة حربية، بل هي مجموعة من الفلسفات والتعاليم التي تمثل صوتًا ثقافيًا عميقًا، وتعود أصول المهابهاراتا إلى شخصية أسطورية تُعرف بفياسا، وتعتبر أحد أسفار الحكمة الهندية الهامة.
من خلال هذه الثنائيات الفريدة وتقديم “المهابهاراتا”، نجح بيتر بروك في إدماج الطقوس المسرحية مع العناصر البصرية السينمائية، مقدماً تجارب تستفز التفكير، وهذا يدعو للتساؤل حول أي الوسائط تقدم تجربة التلقي الأكثر عمقاً، والجواب يبقى مرتبطاً بقدرتها على الجمع بين الجسدية والفكرية في صنع المعنى، مما يحقق الهدف الأعمق للفن.
تعليقات