عصر المحاكاة: تأثير تسليع الثقافة على الأصالة الإنسانية

عصر المحاكاة: تأثير تسليع الثقافة على الأصالة الإنسانية

في عصر الإعلام الجديد تتسارع وتيرة انتشار المحتوى الفيروسي عبر منصات السوشيال ميديا مما يؤدي إلى تحول جذري في هوية الأفراد والمجتمعات، إن ثقافة “الفيديو والبوست” التي تُشارك بالآلاف لم تعد مجرد تفاعل عابر بل أوجدت تشيؤًا للذات وتوحيداً للأذواق مما حول الأفراد إلى نسخ متشابهة تعكس انزلاقًا نحو انعدام التميز الفردي، هذا الواقع يعكس انحسار التعددية الثقافية لصالح تجارب سطحية متشابهة، مما يثير القلق حول طبيعة التواصل الإنساني اليوم.

تعتبر هذه الظاهرة نتاجًا عميقًا لآليات العولمة الرقمية التي تساهم في تسليع التجارب الإنسانية، إن فقدان الخصوصية الثقافية بات واضحاً مع استبدال الأصالة بمحتوى يُحاكي السطحية فتصبح التجارب الإنسانية مجرد نسخ مستنسخة من تجارب الآخرين، وتأثير ذلك يمتد إلى كل مجالات الحياة اليومية حيث نرى تراجع التعبير الفريد لصالح الترديد الجماعي.

عندما تُردد عبارات أو مقولات تنتشر بشكل واسع بغض النظر عن الفئات الثقافية والاجتماعية فإننا نشهد حالة من الاستلاب الفكري واللغوي، من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي يرى إرفنج جوفمان أن الفرد يدير انطباعاته في المجتمع لكن في السياق الرقمي أصبح هذا الأداء مجرد نسخ ولصق لنماذج جاهزة فتجاوزنا التعبير الأصلي إلى استبدال القناعات الشخصية بمظاهر رقمية مستهلكة.

إن تكرار الأفكار والمفاهيم يعزز من وجود هوية تستند إلى البوست، تلك الهوية تصبح مختزلة ومبسطة، يسهل استهلاكها ونشرها لكنها تعاني من عمق ومعنى، بهذه الصورة تؤثر هذه الظاهرة على النسيج الاجتماعي الأوسع، بينما كانت الفنون وعناصر الثقافة تعبر عن مميزات كل طبقة اجتماعية فقد تلاشت هذه الفروقات واستبدلت بتوجهات عامة.

تظهرت تأثيرات العولمة الرقمية بشكل واضح في الطريقة التي نستهلك بها الثقافة فلقد أصبح الجميع يستمع لنفس الأغاني ويشاهد الأفلام ذاتها مما يهدد تمايز الهويات الثقافية، إن “الهابيتوس” كما قدمه بورديو قد توحد ليصبح شكلاً واحدًا يفتقر للتنوع، وهذا ما يفسر كيف أن الترند في مجتمعات راقية هو نفسه في البيئات الشعبية.

يمكننا القول إن وسائل الإعلام الحديثة تعمل كقوة دافعة وراء هذا التنميط من خلال الخوارزميات التي تعزز المحتوى الأكثر رواجاً، مما يُسهم في تحويل الثقافة إلى سلع مستنسخة تهمل جذورها الثقافية، هذا السياق يتماشى مع رؤية جان بودريار حول محاكاة الواقع وقدرتنا على التمييز بين الأصل والنسخة فقد أضحى ما يُنشر مجرد نسخ تتكرر بلا أي دلالة حقيقية.

نجد أنفسنا الآن نعيش في ظل عدم القدرة على التمييز بين الثقافات والخصوصيات فأصبحنا نسخًا مشوهة تفقد أصالتها لصالح الانتماء المؤقت للترند، إن تهديد التنوع الإنساني الذي يفرضه هذا التوحيد القسري للهويات الرقمية يعكس كيف أصبحنا أصداء باهتة تمنع ظهور أي هيئة فريدة تحتمل الجدة والعمق الثقافي.

كاتب صحفي متخصص في متابعة وتحليل الأخبار التقنية والرياضية والاقتصادية والعالمية، أكتب في موقع "موبايل برس" وأسعى لتقديم محتوى حصري ومميز يُبسط المعلومة للقارئ العربي ويواكب الأحداث المحلية والعالمية.