أم كلثوم: أسطورة الغناء العربي وتاريخها العريق في الفن والمجتمع
لطالما راودني تساؤل منذ طفولتي عن مشاعر جمهور كوكب الشرق أم كلثوم وهو يستمع إلى صوتها الفريد، كنت أتمنى أن أكون جزءًا من هذا الجمهور العريض، أراقب وجوههم المتألقة من جمال صوتها، كنت أود أن أصفق وأصفق دون تعب، طالما حلمت بتلك اللحظة التي تمتزج فيها نشوة الطرب بعمق الدهشة، لحظة تجمع بين الصوت القوي الذي يملأ القلب وجوهر يجسد الحضور الفريد لهذه الفنانة التي لن تنسى.
لم تعرف الإجابة عن سؤالي إلا مؤخرًا حين دعاني المخرج أحمد فؤاد لحضور عرض “أم كلثوم” في مدينة السادس من أكتوبر، عندما انطفأت الأضواء وظهرت صورتها الهولوجرامية تغني “إنت عمري”، شعرت كما لو كنت في زمن مغاير، فحتى وإن كانت غائبة جسديًا، إلا أن روحها لا تزال تحلق بأصواتها، جعلتني أشعر بدفء حنين يتسلل إلى قلبي، أدركت شغف جمهورها كيف يكون بمجرد انتهاء الحفل، كيف يواجهون صمت الحياة بعد تلك اللحظة.
في العرض المسرحي، وجدت نفسي أمام أم كلثوم بصورة جديدة، تُعرض جوانب من حياتها لم أكن أعرفها، كان المؤلف والشاعر دكتور مدحت العدل قد صاغها ببراعة، مما أثار فيّ شعور الحماسة لاستكشاف المزيد، كانت دقات قلبي تتسارع مع كل صعوبة عاشتها تلك الفنانة التي تمكّنت من تحقيق حلمها، كم كانت امرأة ذكية ومعززة بحب من حولها، جسدت بحق امرأة استثنائية.
عندما نتحدث عن تفاصيل العرض المسرحي “دايبين في صوت الست”، فإن الكلمات لن تكفي لوصف ما شاهدته، على الرغم من أن مدة العرض تجاوزت الساعتين، إلا أن الأحداث كانت متسارعة، وحقيقية تخترق القلوب، منذ مغادرتها منفردة مع والدها إلى القاهرة لتغني أقرب لحظاتها للإبداع، حتى ولدت صداقتها مع الشاعر أحمد رامي الذي ساهم في تشكيل مسيرتها الفنية والشخصية برغم التحديات المتعددة التي واجهتهما.
من المهم أن نستذكر كلمات منيرة المهدية التي عبرت عن مشاعر الخوف والحسرة بعد ظهور أم كلثوم، حيث أنها لم تدرك حينها مدى تأثير صوتها حتى استمعت إليه، فكان عليها أن تحاربها بكل قوتها، ولا سيما عندما شنت الصحافة شائعات مغرضة، لكن أم كلثوم، إذ قررت أن تتجاوز ذلك وتنتصر، مكنها صوتها الحاد من البقاء في قلوب الجماهير.
فيلم “عايدة” كان منعطفًا صعبًا في حياتها، إذ شاركت فيه بعد اقتناعات من رامي والقصبجي، لكن رغم ذلك واجهت صعوبة في إبداء مشاعرها، وقد شعرت بالفشل عندما لم يحقق الفيلم النجاح المطلوب، لكنها استطاعت تجاوز ذلك بانتخابات نقابة الموسيقيين، حيث انتصرت بفوز ساحق يثبت قدرتها كشخصية مؤثرة في عالم الفن.
في لحظة مؤثرة من العرض، ظهرت أم كلثوم على فراش المرض حين علمت بضرورة إجراء عملية جراحية قد تفقدها صوتها، واحتدم النقاش حول سلامتها، هل تجري الجراحة أم تتابع العلاج، كان ذلك بمثابة عصف مختلط بالمشاعر، ينتقل بين الحزن والأمل بطريقة أذهلت الجمهور بعد أن اعترف رامي بأن صوتها ملك للجميع.
تعاونت أم كلثوم مع فوزي وغنت كلمات بليغ حمدي في أغنية غير تقليدية، كما قامت بإحياء حفلات زمن الحرب، حيث كانت تلعب دورًا حيويًا يوازي جهود الجنود في الجبهات، جمعت أسعار التذاكر من أجل دعم المجهود الحربي، معتبرة أن الفن يمكن أن يساهم في تحقيق الأمل والحرية.
انتهت المسرحية بكلمات رائعة “ماتعيطوش.. الفنان عمره ما بيموت”، تركت تلك الكلمات أثرًا عميقًا في نفسي، وقد عشت لحظات مختلطة من القلق والفرح، حيث انتهت المسرحية بأغنية مليئة بالحيوية التي تذكرنا بعمق تأثير أم كلثوم على الأجيال، شعرت بسعادة غامرة لفوز هذا العرض وتأثيره الكبير على الجمهور.
كان العرض مزهرًا بعناصره المدهشة، فقد أبدعت ملك أحمد في دور أم كلثوم الصغيرة، بينما أبهر ظهور أسماء الجمل بدور أم كلثوم الكبيرة الجمهور بأدائها المذهل، وما زاد الإعجاب هو أداء أحمد الحجار دورة عبد الوهاب، وكان تأثير جميع الممثلين واضحًا، مما شكل إضافة قيمة لما قدمه العرض.
لا يمكنني أن أغفل عن الأداء الفريد الذي قدمته ليديا لوتشيانو، حيث تركت انطباعًا قويًا على الجمهور بسياق مستمر من التوتر والحب، بينما أبهر أداء باقي الممثلين وتعزيزهم للقصة، حيث كانت الأدوار متكاملة ونجح كل فنان في تجسيد شخصية أعدت بحرفية عالية.
اجتمع الديكور لنقل الرسائل وبث الحياة في كل مشهد تنظيم الرحلة، إذ احتل المزيج بين الواقع والابتكار دوراً مركزياً في العرض، كانت هناك مؤثرات بصرية تخلق تأثيرًا قويًا، مما جعل المشهد أكثر تميزًا بما يحقق الاندماج بين الشغف وبين معاني التعامل الإنساني.
الرياضة الموسيقية أدت دورًا محوريًا، حيث تمكن كل من الموسيقار خالد الكمار وإيهاب عبد الواحد من مزج الأساليب التقليدية مع العصرية، وأضيفت لمسات مبدعة على تصاميم الملابس لإعادة تجسيد روح الحقبة الزمنية بطريقة مدهشة، كل هذه العناصر اجتمعت ببراعة لتعكس سحر أم كلثوم الأزلي.
الأفكار المقدمة في النص كانت تعكس الصورة الفنية بشكلٍ عميق، فقد عادت بنا إلى زمن الفن الحقيقي، حيث كان المسرح هو منهل للإلهام، وقد أثبت دكتور مدحت العدل في تأليفه للعرض قدرته على جذب الانتباه بصورة تفوق التقليدية، إذاً ما شهده الجميع من تفاعل يعتبر دليلاً على تأثير العراقة والفن.
يظهر أن نجاح العرض الجديد ليس معجزة، بل هو نتيجة للإبداع والتفاني من قبل كل من ساهم فيه، فقد استطاع أحمد فؤاد أن يقدم لنا رؤية جديدة، قراءة متجددة لذاكرة غنائية تضج بالحياة، كانت النتيجة عرضًا يستحق لحظات من التأمل والتقدير، لنذكر دومًا رموزنا العظماء.
تعليقات